كتب فراس زعيتر في جريدة الاخبار الثلاثاء 12 آذار 2024

*قوّة الموت وثقافة فيشي*
 
كوني ضعيفة كي تسعدي الأسياد. كانت هذه إحدى العبارات الراسخة التي تفرض على أي عبدة كورية أم صينية يرميها الاحتلال الياباني في «بيوت المتعة» طوال فترة النصف الأول من القرن الماضي. كثيرات فضّلن الانتحار على الذل هذا، فيما كان للبعض منهن خيار الدنيا بالقتال والآخرة باختيار لحظة الموت، بسكين أو قليل من السم للأسياد. فتيات صغيرات العمر ضئيلات الحجم في وجه رجل محتل أكثر قوة وبطشاً، لكن الشجاعة والكرامة ومنع الأذى عن المقبل من أهل الأرض دفعت الكثيرات إلى القتل والموت وتحمّل التعذيب. هكذا تعيش وتموت ميتة الجندي وتزرع ألف شوكة على الدرب بين عدوها وفتيات بلادها.هكذا، وحتى في العبودية الكاملة والثورة عليها، تكون الحريّة ميلاً أساساً، وقالباً تُبنى فيه الحياة وتتوسّع الأسر وتستحيل أمماً وقبائل وشعوباً. الحرية لم تكن يوماً خاصيّة ثقافية كعادات الحزن والطعام الحار أو الملابس المزركشة، بل بداية لبناء الإنسان مع التحرر الشخصي وصولاً إلى الأمّة. هنا تقول الحكمة إننا بشر اليوم أحفاد لأحرار وأقوياء، فالتوحش الذي أدار العالم لآلاف السنين ما قبل عولمة مجلس الأمن والبنك الدولي والإنترنت، كان يفترض بالقوي أن يزدهر والضعيف بأن يموت. فكانت القوة، لا الجدران العالية، أساساً للرفاهية باتصال لا يعجز عن فهمه أحد على الإطلاق.
«القوّة»، اذاً، هي التي توضع في الميزان قبل كل منتجات البشر، فالأمّة هذه أو تلك، لا تنتج مطبخاً وفناً ورومانسيّة إن لم تكن حرة. وكيف تكون الحرية؟ هل تحتاج إلى إعادة صياغة وشرح ونقاش وإفهام؟ أم هي حاجة لا إرادية للعيش كما النفس ونبض القلب؟ والقوة الحرة هذه، هي ذاتها من يوجد هوامش في المجتمع لإنتاج أناس قادرين على الانعزال التام عن الواقع وعيش الحياة بالبوهيمية وألوانها التي يريدون. فقط لأن هناك من يرعى حدود أرضهم، وأمن تجارة بلادهم، ومصالحها بين الشعوب مهما بعدت المسافات. المرفّهون إذاً صنيعة الأقوياء. وهنا يحدث أن تصبح رفاهية الانعزال ثقافة، لِمَ لا؟ فكل شيء ثقافة في هذه الأيام، وربما يتلهّى المرفّهون هؤلاء بالانزعاج من حرق البنزين أو كثرة البشر أو الأديان أو العادات. ويحصل أيضاً أن تزعجهم صرخات الحرّية فتصبح في إدراكهم ضرباً من ضروب الموت والعبثيّة.
بعض الناس لا يريدون قتل أسياد العبوديّة، ومنهم من تطيب له فيصبح منظّراً للأسياد على أبناء شعبه، باسم الحياة ومنع الموت. أحنوا الظهر وكسروا اتجاه النظر صوبَ القعر، فنعيش وتعيشون. هي قصة حكومة فيشي النازيّة الفرنسيّة يعاد إنتاجها دوماً. فتراهم بالقلم والمنبر واللسان والصوت يخنقون الحرية على مذبح رفاهيتهم، هم خصومك وإن كنت من حرّر أرضاً وأنقذ شعباً وصنع معجزة في التنمية لـ17 سنة متواصلة. فهم ثقافة الرفاهية والفيشيّة وأنت «الطبيعة» بما كان يجب أن يكون.
فلا أحد من هؤلاء يريد أن يكون هوراشيوس الشجاع قائد البوابة، لن يخرج منهم أحد للدفاع عن روما على ذلك الجسر الشهير قبل 1500 عام. لا بل على الأغلب سيكونون من دعاة الرقص في الشارع احتفالاً بوصول غزاة التروسكان، وتقديم أطفال بلادهم قرابين لآلهة العدو. هذه طغمة «ملذات» لن تفهم يوماً «كيف للإنسان أن يموت ميتة أحلى من مواجهة المصائر المرعبة، في سبيل رفات أجداده ومعابد آلهته» - هكذا يوصّف الشاعر ووزير الحرب البريطاني منتصف القرن التاسع عشر اللورد ثوماس ماكالي شجاعة المقاومة وتحديداً فكرة العطاء والقتال والدفاع عن الأرض مهما كانت احتمالات وشروط النصر صعبة وتقترب من المستحيل. ليلاقيه شاعر آخر في القرن الماضي، هو ليت غيلتنر، عندما «خلّد» ثورة العبد المجالد سبارتاكوس على «أسياده» الرومان قائلاً: «كان لديه حاجب إله وفم إنسان عذب»... فانظروا اليوم إلى صاحب الحاجب السميك واستمعوا لعذب كلامه.

المصدر : admin
المرسل : Sada Wilaya